عرض وتحليل: محمد شيرين الهواري
خلفية[i]:
ليس بجديد أن يثار جدلا ً واسعا ً – سواء فى مصر أو فى العديد من البلدان الأخرى – حول موضوع عقوبة الإعدام ومدى وجوب وجودها أو تطبيقها من عدمه. وتنقسم الأراء فى العادة إلى أربعة توجهات رئيسية حيث يرى الفريق الأول أن وجود مثل هذه العقوبة الرادعة يقلل بشكل ملحوظ من تفشى الجريمة وخاصة جرائم القتل والإغتصاب وبالتالى فهو يؤيدها بشكل مطلق ويريد ترك تطبيقها لتقدير هيئة المحكمة. أما الفريق الثانى فيطالب بالإبقاء على عقوبة الإعدام كمادة من مواد قانون العقوبات لجرائم معينة فقط مع إلغاؤها بالنسبة لكافة الجرائم الأخرى بينما يعتقد فريق ثالث أن وجود عقوبة الإعدام مهم ولكن يجب حصر تطبيقها فى أضيق نطاق ممكن. كما يوجد فريق أخير يرفض عقوبة الإعدام بشكل مطلق تحت أى ظرف من الظروف ويرى أنها ليست سوى عملية قتل مقننة ويرفضها بالتالى لأسباب أخلاقية وإنسانية وأيضا ً قانونية.
ونجد أنه على مستوى العالم قد قامت 99 دولة بإلغاء عقوبة الإعدام نهائيا ً[ii] وبشكل رسمى وألغتها إلا بالنسبة لجرائم معينة 6 دول وألغتها فعليا ً ولكن ليس رسميا ً 35 دولة[iii] وأبقت عليها وتنفذها فعليا ً 58 دولة.
ولا توجد عقوبة الإعدام فى أى دولة من دول ما يطلق عليه العالم الأول بإستثناء روسيا الإتحادية واليابان والولايات المتحدة وهى تتراجع بشدة فى الأخيرة حيث تم إلغاؤها فى 19 ولاية حتى الآن وكانت أولها ولاية ميشيجان عام 1846 وأخرها ولاية نبراسكا عام 2015 وتعتبر روسيا الإتحادية من الدول التى توجد بها عقوبة الإعدام ولكن لا تطبق.
كما لا توجد عقوبة اعدام فى أى دولة أوروبية أو شمال أمريكية بإستثناء الولايات المتحدة وكوبا.
هذا وإن كان يجب الإشارة هنا إلى أن معظم – إن لم تكن جميع – الدول التى ألغت عقوبة الإعدام أو لا تنفذها فعليا ً يتيح قانون العقوبات بها إصدار أحكام بالسجن مدى الحياة فعليا ً بدرجات متفاوتة وليس فقط المؤبد المتعارف عليه الذى يجيز العفو بعد خمسة وعشرون عاما ً, كبعض الولايات الأمريكية التى تطبق نظام العقوبة المؤبدة المتعددة Multiple Life Sentences والتى قد يصل إجماليها إلى مئات الأعوام حتى مع إحتساب الحد الأدنى للعفو كل منها على حدة أو العقوبة المؤبدة غير القابلة للعفو Life Sentence without Parole الموجودة فى الأرجنتين على سبيل المثال[iv].
وتتصدر قارة أسيا قائمة الدول التى تطبق عقوبة الإعدام بتسعة وعشرون دولة وأكثرها تنفيذا ً لها على مستوى العالم الصين وإن كانت الأرقام الدقيقة غير معلنة إلا أن التقديرات تشير إلى ما يزيد عن 550 حالة إعدام بها عام 2014 وحده, تليها إيران (289) ثم السعودية (90) ومن بعدها العراق (61) ثم الولايات المتحدة (35) وتليها اليمن (22) بينما تحل مصر فى المرتبة السابعة للدول الأكثر تنفيذا ً لعقوبة الإعدام عام 2014 بخمسة عشر حالة[v].
وتتصدر الصين أيضا ً قائمة أحكام الإعدام التى صدرت عام 2014 بعيدا ً عن تنفيذها من عدمه برقم غير معروف على وجه الدقة ثم نيجيريا (659) وتجئ مصر فى المركز الثالث بعدد 509 حكما ً بالإعدام[vi].
كما نلاحظ أيضا ً أن كافة الدول العربية والإسلامية أو ذات أغلبية السكان المُسلمة بها عقوبة الإعدام وإن كانت غير مُطبقة فى كل من تونس والجزائر والمغرب وفقا ً لتعريف الهامش iii.
ويجب التنويه بالطبع أيضا ً إلى أن الإرتفاع الهائل لحالات الإعدام (أحكاما ً وتنفيذا ً) فى مصر عام 2014 يعود فى الأساس إلى الصراع المرير الدائر فى هذه الأيام بين النظام الحاكم حاليا ً ومجموعة التيارات الإسلامية المسلحة بالإضافة إلى التوسع غير المسبوق من ناحية القضاء فى إعمال هذه العقوبة بعيدا ً عن أسبابه لذلك, فنرى على سبيل المثال أنه بدلا ً من 509 حكم بالإعدام فى عام 2014, صدرت عن المحاكم المصرية عام 2010 أحكاما ً بالإعدام بلغ إجماليها 136 حكم[vii], نُفذت منها أربعة أحكام[viii].
أولا ً: الدول التى تطبق حكم الإعدام
وأبرز هذه الدول هى الصين, اليابان, الولايات المتحدة, إيران, باكستان, نيجيريا وكوريا الشمالية. وبالطبع توجد أسباب مختلفة تدفع بكل منها إلى تطبيق هذه العقوبة القاسية حيث تستخدمها الصين وكوريا الشمالية وإيران وجزئيا ً باكستان أساسا ً بغرض تصفية المعارضة السياسية بسبل يمكن تصديرها للخارج على أنها قانونية بينما تدخل الحالة النيجيرية إعتبارات إثنية وتأتى فى اليابان لإعتبارات ثقافية وموروثات إجتماعية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فيدافعون فيها المؤيدين لها عنها بمنطق أن شدة العقوبة يمكن أن تشكل عنصرا ً رادعا ً يحول دون تفشى الجرائم الثقيلة وهى الفكرة التى ينتقدونها المعارضين بقولهم أنه لا توجد إحصائية واحدة تشير إلى أن الدول المُطبقة للإعدام تقل فيها نسبة الجرائم عن الدول التى ترفض تطبيق هذه العقوبة.
كما تتعدد التهم التى تنص القوانين المختلفة على إعمال عقوبة الإعدام فيها, من القتل والإغتصاب (الولايات المتحدة), عبورا ً بإزدراء الين الإسلامى (باكستان[ix]) ووصولا إلى التخابر مع دولة أجنبية (الصين, كوريا الشمالية وأيضا ً مصر) أو تجارة وتهريب المخدرات (تايلاندا). ويرى البعض بالطبع أن تهمة مثل إزدراء ديانة ليست فقط لا تستحق الإعدام ولكنها ليست جريمة من الأساس وأن إعتبارها كذلك مساس غير مقبول بحرية الرأى والتعبير.
كما يرتبط وجود حكم الإعدام فى أغلب الأحوال بالدول الديكتاتورية والشمولية أو تلك ذات النظم الملكية والتى لا توجد فيها هيئات برلمانية قوية وفاعلة تملك الخروج الخروج على رغبة الحاكم لتغيير القوانين تغييرا ً جذريا ً. وإلغاء عقوبة الإعدام بالذات كثيرا ً ما يعنى التقليل من سطوة الحاكم وهيمنته وقدرته على الترسيخ لحكمه المُستبد.
ثانيا ً: الدول التى لا تطبق حكم الإعدام إلا فى جرائم معينة
وهذه الدول هى البرازيل وشيلى والسلفادور وإسرائيل وكازاخستان وبيرو. والملاحظ بالطبع أن أربعة من تلك الدول السبعة من منطقة أمريكا الجنوبية واللاتينية ولكننى فى الحقيقة لم أتمكن من إيجاد أى رابط مشترك فيما بين وجود حكم الإعدام مع تضييق نطاق التطبيق من ناحية والموقع الجغرافى لتلك الدول الأربعة من ناحية أخرى إلا أن كل من البرازيل وشيلى والسلفادور تقصر حكم الإعدام على المحاكم العسكرية فقط ولا يجوز العمل به إلا فى حالات الحرب المُعلنة مع دولة أخرى[x], بينما تدخل فى حالة بيرو تهم أخرى فى نطاق الإعدام مثل الإرهاب والجاسوسية والقتل الجماعى والتمرد على القيادات العسكرية فى أوقات الحرب أو التهرب من الخدمة العسكرية فى أوقات الحرب ويكون حكم الإعدام فيها لكل من المحاكم العسكرية والمدنية[xi]. وفى كازاخستان تطبق عقوبة الإعدام فى أوقات الحرب أو على جرائم الإرهاب فقط[xii] بينما ينص القانون الإسرائيلى على عقوبة الإعدام فى الجرائم ضد الإنسانية والخيانة العظمى والقتل الجماعى والجرائم المُرتكبة ضد الشعب اليهودى فى أوقات الحرب[xiii].
والواضح مما سبق أن ثلاثة من الدول الستة تجنح إلى إقتصار عقوبة الإعدام على حالات إستثنائية جدا ً, بما يلغيها عمليا ً فى أوقات السلم وبما يرجح أيضا ً أنها مقصودة للحفاظ على الأمن القومى فى حالة الحرب بينما تتبنى الدول الثلاث الأخرى نظرة أكثر إتساعا ً, خاصة إسرائيل التى تطبقها على حالات خلافية وقابلة للتأويل مثل الخيانة العظمى والجرائم المُرتكبة ضد الشعب اليهودى فى أوقات الحرب. ونجد أيضا ً إشكالية تتعلق بتعريف الإرهاب فى كل من بيرو وكازاخستان.
ثالثا ً: الدول التى بها عقوبة الإعدام ولكنها لا تطبقه
وأبرز هذه الدول هى كوريا الجنوبية وروسيا الإتحادية وتونس والجزائر والمغرب وكينيا والكونغو الديمقراطية. وأغلب الظن أن ذلك يرجع فى حالات دول المغرب العربى الثلاثة إلى تأثرها بقانون المستعمر الفرنسى الذى كان يطبق هذا النظام حتى عام 1981 عندما قامت فرنسا بإلغاء عقوبة الإعدام للجرائم كافة[xiv]. وبينما تنطبق عقوبة الإعدام فى المغرب على جرائم الإرهاب فقط[xv], تستخدمها تونس فى جرائم القتل والإضرار بالأمن القومى الخارجى (تخابر مع دولة أجنبية)[xvi] ويكون التطبيق الأكثر إتساعا ً بين هذه الدول الثلاث فى الجزائر لما تنص القوانين فيها على عقوبة الإعدام فى حالات الخيانة العظمى, محاولة قلب نظام الحكم أو التحريض على ذلك, تخريب المنشأت العامة, المذابح, الإشتراك فى جماعة مسلحة, التزوير الإرهاب, التعذيب والإختطاف[xvii]. وهو شكل يذكرنا كثيرا ً بقانون الكيانات الإرهابية الذى صدر فى مصر مؤخرا ً.
وفى كوريا الجنوبية يعاقب بالإعدام من قتل أو تخابر مع دولة أجنبية أو قام بتمرد على نظام الحكم أو حرض عليه[xviii]. ويكون حكم الإعدام فى كل من كينيا والكونغو الديمقراطية لجرائم القتل والسطو المسلح والخيانة العظمى[xix] بينما تطبق فى روسيا الإتحادية عقوبة الإعدام على مرتكب جرائم القتل العمد ومحاولات إغتيال موظفى العموم والقتل الجماعى[xx].
إلا أن كافة هذه الدول لم تنفذ أى حكم بالإعدام على مدار السنوات العشر الأخيرة لإعتبارات مختلفة يعود بعضها إلى وجود ضغوط خارجية شديدة مثل ضغط مجلس الإتحاد الأوروبى على روسيا الإتحادية. وليس أدل على أن عقوبة الإعدام فى مجموعة الدول الخمسة والثلاثين هذه ليست موجودة فعليا ً مما حدث عام 2009 فى كينيا عندما تم تحويل كافة أحكام الإعدام (نحو 000 4 حكما ً) إلى السجن المؤبد[xxi].
رابعا ً: الدول التى ألغت عقوبة الإعدام رسميا ً لكافة الجرائم
وهى مجموعة الدول الأكبر من بين الفئات الأربعة وتحتوى إجمالا ً على 99 دولة وأبرزهم ألمانيا وفرنسا والسويد وبريطانيا وهولندا واليونان وإيطاليا. ومعظم دول مجموعة الــ 99 هذه يرفضون عقوبة الإعدام من حيث المبدأ لأسباب أخلاقية تتعلق بحرمة الحياة وعدم جواز قتل النفس البشرية أى كانت الأسباب وأن حتى جريمة القتل لا يكون ردها بالمثل وهذا بالرغم من أن الجزء الأكبر من الدول الأوروبية لها تراث ثقافى أكثر توحشا ً وعنفا ً من بعض الدول التى تطبق عقوبة الإعدام بشكل صارم.
كما أن هناك بالطبع أيضا ً ظرف سياسى لإختفاء عقوبة الإعدام من أوروبا بشكل شبه تام وهو البروتوكول الثالث عشر للمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان الذى تم التصديق عليه عام 2003 والذى يمنع عقوبة الإعدام قطعا ً لكافة الدول الأعضاء. ويُضاف إلى ذلك إتفاق معظم فقهاء القانون فى تلك البلدان أنه لا يوجد ما يمكن أن نعتبره دليلا ً قاطعا ً على جريمة القتل العمد مثلا ً لما كان إثبات نية مسبقة شبه مستحيل وبالتالى لا يجوز الحكم بعقوبة قاطعة ويجب بالتالى الإكتفاء بعقوبة سالبة للحرية يمكن الرجوع فيها إذا ثبت عكس العقيدة التى كونتها المحكمة.
إلا أن الملفت للنظر فى الحقيقة هو أن نفس هذه القائمة توجد بها أيضا ً دول مثل السنغال وأوزبكستان وبوليفيا والفيليبين وباراجواى وتركمنستان وموزمبيق وهى جميعها دول لم تتخلص إلا مؤخرا ً من نظم حكم شمولية أو عسكرية وبالتالى لم يكن لها ما يكفى من الوقت لإنضاج بيئتها التشريعية على أسس ديمقراطية. ومن ثم جاء إلغاء عقوبة الإعدام فى هذه الدول متأخر نسبيا ً حيث قامت موزمبيق بهذه الخطوة عام 1990 وتلتها باراجواى فى 1992 ثم تركمنستان 1999 والسنغال 2004 والفليبين 2006 وأوزبكستان 2008 وبوليفيا 2013.[xxii]
وأغلب الظن أن هذه الدول أرادت اللحاق بركب الدول الديمقراطية المتقدمة بشكل عام وفى تشريعاتها بشكل أكثر تحديدا ً, خاصة وأن إنضمامها للمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان يرتبط ليس فقط بموقف أيديولوجى أو توجه فلسفى فى التشريع ولكن أيضا ً بمجموعة من المصالح الإقتصادية والسياسية المختلفة وإن كان ذلك لا يعنى طبعا ً بالضرورة أن إلغاء عقوبة الإعدام لديها يتعارض مع موقفها المبدئى وأنها لا تفعل ذلك سوى نفاقا ً لدول أخرى, بل أنها فى بعض الأحيان تفعل ذلك لتعزيز وضع حقوق الإنسان لديها وتعميقها.
خامسا ً: المعاهدات الدولية ذات الصلة
تجب التفرقة أولا ً ما بين المعاهدات التى تحظر عقوبة الإعدام تماما ً وتلك التى تحاول الحد منها إلى أقصى درجة ممكنة. وتحتوى الفئة الأولى على \”البروتوكول الإختيارى الثانى للعهد الدولى للحقوق السياسية والمدنية\” و\”البروتوكول الخاص بالإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان وإنهاء العمل بعقوبة الإعدام\” و\”البروتوكول السادس للإتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية\” و\”البروتوكول الثالث عشر للمعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية\”. أما الفئة الثانية فتتضمن كل من \”معاهدة دول الكومنولث المستقلة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية\” و\”الإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان\” و\”الميثاق العربى لحقوق الإنسان\”[xxiii].
وبعيدا ً عن أن مصر لم توقع على \”البروتوكول الإختيارى الثانى للعهد الدولى للحقوق السياسية والمدنية\” – وهو المرجعية الأساسية فى هذا الشأن بالنسبة للعالم حيث وقعت عليه 81 دولة – يوضح لنا ذلك البروتوكول موقف المجتمع الدولى والأمم المتحدة من عقوبة الإعدام حيث يأتى فى ديباجته \”أن إلغاء عقوبة الإعدام سيسهم فى تحسين الكرامة الإنسانية وفى تطوير حقوق الإنسان\” و\”أن إلغاء عقوبة الإعدام مطلوب\” و\”أن إلغاء عقوبة الإعدام يعتبر تقدما ً نحو التمتع بالحق فى الحياة\”. كما يأتى فى نص الفقرة الثانية من المادة الأولى للبروتوكول \”أن على الدول الموقعة إتخاذ كافة ما يلزم من تدابير لإلغاء عقوبة الإعدام فى نطاق سيادتها\”[xxiv].
أما مصر فقد وقعت فقط على \”الميثاق العربى لحقوق الإنسان\” والتى يأتى نص مادته السادسة كالتالى: \”لا يجوز الحكم بالإعدام إلا لأكثر الجرائم جسامة وفقا ً للقوانين السارية بالدولة المعنية وقت إرتكاب الجريمة وبناء ً على حكم نهائى قضت به محكمة مؤهلة لذلك. ولكل من تم الحكم عليه بالإعدام أن يستأنف هذا الحكم أو يطلب تغييره أو إستبداله بعقوبة أخرى\”[xxv].
ولا خلاف بالطبع على أن صياغة المادة السادسة فى \”الميثاق العربى لحقوق الإنسان\” فضفاضة ومطاطة جدا ً ولا تنطبق عليها عبارة \”الحد من عقوبة الإعدام إلى أقصى درجة ممكنة كما استخدمتها \”جمعية المحامين الدولية\” ولكنها فى الحقيقة تترك مساحة تفسير وتأويل واسعة لتعريف \”الجرائم الأشد جسامة وفقا ً للقوانين السارية بالدولة المعنية\” لدرجة قد تصل فى مصر مثلا ً إلى تكييف القضايا وإعتبار كافة الجنايات جرائم شديدة الجسامة وبالتالى تستحق عقوبة الإعدام.
وللأسف الشديد نجد أن مصر فى الواقع لا تلتزم حتى بضوابط ومعايير أحكام الإعدام التى وضعتها الأمم المتحدة باالنسبة للدول التى لا تزال تطبق وتنفذ عقوبة الإعدام وتم إعتمادها من المجلس الإقتصادى والإجتماعى عام 1984 [xxvi] مثل كفالة حق الإستئناف لدى محكمة أعلى, بل وجعله إجباريا ً [xxvii] وهو ما لا يتوفر فى المحاكم العسكرية التى لها إصدار أحكام إعدام على مدنيين فى مصر حاليا ً أو عدم جواز إصدار أحكام بالإعدام على أشخاص لم يبلغوا سن الثامنة عشرة[xxviii]وهو ما حدث فى قضية أحداث الشغب بالمنيا فى أعقاب فض إعتصامى رابعة والنهضة فى أغسطس 2013 حتى ولو كانت هذه الأحكام قد تم نقضها فيما بعد.
الخلاصة:
قد يرى البعض فى عقوبة الإعدام قصاص عادل لفعل أضر ضررا ً جسيما ً بالأخرين, سواء كان بقتلهم أو بإلحاق الأذى الشديد بهم بأى طريقة من الطرق. وقد يرى هؤلاء أيضا ً أن الإعدام ضرورة ليرد المجرم دينه إلى المجتمع ليتحقق بذلك السلم المجتمعى وحتى لا يغرق الجميع فى الفوضى, خاصة فى دول مثل مصر التى لا تزال قطاعات عريضة من شعبها تأخذ بعملية \”الثأر\” فى حالات القتل.
وهذه فى الحقيقة كلها إعتبارات هامة وأفكار لها ما يؤيدها منطقيا ً وموضوعيا ً إلا أنها تتغافل فى الوقت نفسه عن أن هذه العقوبة هى فى واقعها عقوبة هدفها الأساسى الأخذ بالثأر عن طريق الدولة بدلا ً من أن يكون عن طريق الفرد وليس تحقيق العدالة فعليا ً لأن هذه العدالة لن تتحقق أبدا ً من خلال تطبيق مبدأ \”العين بالعين والسن بالسن\” أو \”من قتل يُقتل\” حيث لن يؤدى أيهما إلا إلى المزيد من العنف فى نهاية الأمر حيث يجب أن يكون المجتمع أكثر رُشدا ً من الفرد, أى أن المجتمع لا ينتقم مثلما يفعل الفرد وإلا لما كانت هناك حاجة لسن القوانين أو بناء المجتمعات من الأساس.
كما أن لب الفلسفة العقابية فى القوانين هو إصلاح المجتمع وتهذيبه ككل وليس الثأر من بعض أفراده الذين خرجوا عن قواعده وأسسه, مهما كانت درجة هذا الخروج أو بشاعته. لا أنكر أن الردع بقوانين صارمة لدرجة تصل إلى القسوة أحيانا ً يمكنه أن يكون جزء من هذا ولكن عقوبة الإعدام تحديدا ً ليست برادعة فى الحقيقة ولم تُسهم مثلا ً على حد علمى فى الحد من جرائم الثأر فى الريف المصرى, تماما ً مثلما لم تقلل من جرائم القتل فى ولاية تكساس الأمريكية وهى أكثر الولايات الأمريكية تطبيقا ً لعقوبة الإعدام. وإنطلاقا ً من ذلك سنجد أن عقوبة الإعدام لا تحقق العدالة إلا فى ظاهرها لأنها لا تؤدى إلى شئ سوى التخلص النهائى من فرد رأت المحكمة أنه ضار بالمجتمع دون أن يكون فى ذلك تعرض لجذور المشكلات التى أدت إلى واقعة القتل كى لا تتكر مرة أخرى وتسود العدالة بمعناها الأوسع والأشمل.
توجد على سبيل المثال بعض الدول التى لا تعاقب بالسجن من إعتدى على سيدة مُسنة لسرقتها بمادام لم ينتج عن الإعتداء إصابة جسيمة لتلك السيدة, بل تحكم على الجانى بالعمل دون مقابل لفترة محددة فى دور للمسنين ليتفهم مشاكلهم ومعاناتهم وقدر ما يلاقونه من مصاعب. إذا كان هذا ممكنا ً, فما بالنا بقاتل تحدد له المحكمة أن يقضى خمسة وعشرون عاما ً أو أكثر أو حتى بقية حياته كلها يعمل فى مستشفى السجن وينقل فيما بعد أو أثناء ذلك خبرته عن أهمية الحياة أو قدسيتها إلى أفراد أسرته بدلا ً من تنشئة أولاده وهم يكنون بداخلهم إحتقان وكراهية شديدة تجاه تلك الدولة وهذا المجتمع وكل من حولهم ليمارسوا فيما بعد نفس الجرائم حتى لو كان أعدم أبيهم بسببها.
هذا بالإضافة بالطبع إلى أن المجتمع, أى مجتمع, ليس بكتلة صماء أحادية الرؤية, بل تتباين بداخله التوجهات وتتنوع الأيديولوجيات حتى لو كانت هناك أغلبيات واضحة, إلا أن القانون حتى ولو كان يُسن من خلال هيئة إنتخبت من أغلبية (الهيئة البرلمانية), يخدم فى النهاية كافة شرائح وفئات المجتمع وعليه بالتالى عدم التجاوز فى حق أى فرد من أفراده ويراعى مصالحهم جميعا ً وإلا تحول إلى أداة إستبدادية وقمعية مضطهدة للأقليات. ولكن هذا بالطبع نقاش أوسع كثيرا ً من مجال هذه الورقة المتواضعة حيث يتصل بفلسفة بناء القوانين بشكل عام وليس فقط فيما يتعلق بعقوبة الإعدام وإن كانت الأخيرة تكتسب أهمية خاصة بالنسبة لنقطة التنوع المجتمعى حيث ستختلف الأراء حولها ليس فقط فى شرعيتها من عدمه ولكن أيضا ً – على فرض اننا إتفقنا على شرعيتها من جحيث المبدأ – حول تعريف ونوعية الجرائم التى يجوز تطبيقها عليها والأركان التى يجب أن تستوفيها.
صحيح أن القوانين يجب أن تعكس بدرجة ما مناخها الإجتماعى والفكرى والثقافى والتراثى ولكن فى الوقت نفسه لا يجوز أبدا ً أن تكون بإستمرار عُرضة لإبتزازها على يد موروثات هذا المجتمع وتقاليده أو ما يعتبره من مسلماته. هذا لأن أحد الأدوار الرئيسية للقانون هو أن يضبط إيقاع النبض الإجتماعى ويحدده وليس العكس وهو ما قد يتطلب فى بعض الأحيان إصدار القوانين بشكل فوقى نوعا ً وبما قد لا يتمشى دائما ً مع المزاج المجتمعى السائد – والمُتغير بالمناسبة – إن كان فى ذلك ما يخدم تحديث مسارات هذا المجتمع وإحترامه لأسمى حقوق الإنسان وهو الحق فى الحياة حتى ولو وجدت هناك أفراد لا يحترمون هذا الحق لأن المجتمع فى صحيحه مثلما هو أرشد من الفرد كما أسلفنا فهو أيضا ً أكبر من الفرد.
كما يجب التنويه أيضا ً إلى إمكانية إساءة إستغلال عقوبة الإعدام أو التلويح بها لتتخلص النظم الإستبدادية من معارضيها بزعم محاربة الإرهاب والقضاء عليه. ولنا عبرة بما حدث فى الكثير من دول أمريكا الجنوبية واللاتينية فى السبعينيات وبما يحدث حتى الآن فى الصين وبالطبع أيضا ً بما يحدث فى مصر فى أيامنا هذه.
ويجب عدم الإنسياق وراء تصور – أراه فى تقديرى الشخصى غير موفق – أنه يمكن أن تكون هناك عقوبة إعدام منضبطة لأنها بطبيعتها عقوبة وحشية لا تحتمل الإنضباط وتنتمى إلى العصور الوسطى. فما دامت هناك إمكانية لإساءة الإستغلال, فهو حتما ً سيتم.
وبالتالى أرى أيضا ً أنه لا مجال لما ينادون به البعض من تعليق مؤقت لعقوبة الإعدام أو على الأقل تعليق لتنفيذها لأن فى هذا موافقة ضمنية عليها وعلى شرعيتها فى أحوال معينة وهو ما سيعود بنا مرة أخرى إلى مأزق التعريفات – بعيدا ً عن رفضى أنا الشخصى لها من حيث المبدأ أصلا ً – حيث ستختلف الأراء بشدة حول متى يكون هناك وضعا ً يتطلب تطبيق العقوبة ومتى تكون غير جائزة. فقد يرى البعض على سبيل المثال أن حالة الإرهاب التى تشهدها مصر حاليا ً تبرر عقوبة الإعدام لضبط الوضع الأمنى بينما سيقول البعض الآخر أن عقوبة الإعدام تزيد من إحتقان المشهد الحالى وتعمق التقسيم الموجود بداخل المجتمع.
ومن الضرورى فى النهاية أن نبتعد أيضا ً عن \”شخصنة\” هذه القضية وطرح أسئلة من نوعية \”ماذا سيكون موقفك لو كان ضحية القتل من ذويك؟\”. فهذه أسئلة لا يجوز أبدا ً طرحها فى إطار قانونى لأن القانون لا يعرف أشخاص بعينهم ولو لم يكن أعمى لما كان قانونا ً.
عرض وتحليل: محمد شيرين الهواري
حزب \”العيش والحرية\” – تحت التأسيس – اللجنة السياسية.
_________________
[i] الأرقام الإحصائية من www.deathpenaltyinfo.org إلا فيما يشار إليه بغير ذلك.
[ii] 77 منهم من بعد عام 1976 وكانت أخرها جزر فيجى فى فبراير 2015 (المصدر بأعلى)
[iii] تُعرف هذه الدول بأن عقوبة الإعدام مازالت موجودة فى القانون وقد تكون فيها أحكام إعدام صدرت ولكن لم يُنفذ أى منهم على مدار السنوات العشرة الأخيرة.
[iv] دراسة كلية الحقوق بجامعة سان فرانسيسكو \”قوانين الدول الأخرى – “Laws of Other Nations”
[v] تقرير منظمة العفو الدولية
[vi] المصدر نفسه
[vii] جريدة \”الأهرام ويكلى\” الإنجليزية, عدد 24 مارس 2014
[viii] تقرير منظمة العفو الدولية
[ix] المادة 295 من قانون العقوبات الباكستانى
[x] تقرير منظمة العفو الدولية و www.deathpenaltyinfo.org
[xi] تقرير منظمة العفو الدولية
[xii] مركز كازاخستان الدولى للمعلومات
[xiii] المركز القانونى الإسرائيلى
[xiv] www.deathpenaltyinfo.org
[xv] تقرير منظمة الاعفو الدولية
[xvi] المنظمة العالمية لمناهضة عقوبة الإعدام
[xvii] المصدر نفسه
[xviii] منظمة العفو الدولية ومركز الدراسات الكورية
[xix] منظمة العفو الدولية
[xx] المركز الدولى للتشريع
[xxi] مجلة \”تايم\”, عدد 5 أغسطس عام 2009
[xxii] مصدر التواريخ فى هذه الفقرة www.deathpenaltyinfo.org
[xxiii] جمعية المحامين الدولية
[xxiv] موقع الأمم المتحدة
[xxv] موقع جامعة الدول العربية
[xxvi] الترجمة العربية على موقع جامعة مينيسوتا الأمريكية – مكتبة حقوق الإنسان
[xxvii] المادة (6)
[xxviii] المادة (3)